بسم الله الرحمن الرحيم
#الدرس 15
الحمد لله ربِّ العالمين، الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المُصطفى، وآله وأصحابه ومَن اقتفى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
أيُّها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله -عز وجل- أن يملأ حياتنا بالإيمان، وأن يُسعد أرواحنا بالقرآن، وأن يجعلنا من أتباع المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام.
لا زلنا نتحدث في هذه الدروس عن (البناء العلمي)، والذي من خلاله نريد أن نجمع بين أمرين:
- بين آدابٍ يجب على طالب العلم أن يُراعيها.
- وبين أسسٍ يجب على طالب العلم أن يسير عليها.
تحدَّثنا في الدروس الماضية عن مجموعةٍ من الآداب المُهمة التي يجب على طالب العلم أن يتحلَّى بها، وذكرنا لكم أنَّ طالب العلم يجب أن يكون مُتميزًا عن غيره، وهذا التَّميز ليس لأجل أمرٍ من أمور الدنيا لديه، ولكن صيانةً للعلم الذي شرَّفه الله -عز وجل- به، فيجب عليه أن يصون هذا العلمَ وأن يحفظه.
• ومن الآداب أيضًا: ألا تتعجَّل الفُتيا:
فبعض الناس لديه حرصٌ على الفُتيا بشكلٍ غير طبيعيٍّ، مع أنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم أعلم الناس بهذا الدين لم يكونوا يتدافعون على الفُتيا.
يقول عُمَير بن سعيد -رحمه الله: "أتيتُ إلى علقمة فسألته عن مسألةٍ فقال: ائتِ عبيدة. فذهبت إلى عبيدة وقلت: ما حكم كذا؟ قال: ائتِ علقمة. قلت: هو أرسلني إليك. قال: ائت مسروقًا. فذهبت إلى مسروقٍ فقلت: ما رأيك في المسألة؟ قال: ائت علقمة. قلت: ذهبتُ إلى علقمة، وعلقمة أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك. قال: اذهب إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى. فذهبت إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى فكأنَّه كره المسألةَ أيضًا، فعدتُ إلى علقمة فقلت: ما لكم؟ قال: كانوا يقولون: أجرؤكم على الفُتيا أقلُّكم علمًا".
والإنسان حينما يستشعر عظمة الفُتيا، وأنَّه قد يُوقِع الناسَ في خطأ -لا قدَّر الله- يعرف عند ذلك عظمة هذا الأمر، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل: 116]، فحينما يُسأل الإنسانُ عن مسألةٍ لا بأسَ أن يُجيب إذا كان يعرف، وإن وجد غيرَه فالأفضل أن يدفع بها إلى غيره.
يقول العلماء: "سرعة الجواب على السؤال أشدّ من فتنة المال".
فبعض الناس عنده شغفٌ ويُحبُّ أن يكون سريعًا في الإجابة، وسريعًا في تقبُّل السؤال، ويرى أنَّ هذا دليلٌ على فهمٍ وحفظٍ وعلمٍ، لكن هذا فتنة للإنسان؛ لأنَّه قد يقع في الزَّلل وهو لا يشعر، وحينما تُوقِع الناسَ في الزَّلل وتُوقِّع عن ربِّ العالمين فقد اقترفت خطأً كبيرًا، وابن القيم له كتاب "إعلام المُوقِّعين عن ربِّ العالمين"، يقول فيه: "إذا كان مَن يُوقِّع عن الملوك بالمحل الكبير، فكيف بمَن يُوقِّع عن ربِّ العالمين؟!". فأنت تقول للناس: هذا حكم الله، وهذا حكم رسوله -صلى الله عليه وسلم.
ذكر العلماءُ قصَّةً تدلُّ على تسارع البعض إلى الجواب عن المسألة دون تَرَوٍّ، يقولون: رجلٌ عاش في باديةٍ، فقال له والده: كلما سُئِلتَ عن مسألةٍ فقل: فيها قولان، وبالفعل فيها قولان: حلال وحرام، وفيها قولان: يجوز ولا يجوز. فجعل الناسُ يشكُّون في أمره، فقال له أحد الناس سريعًا: يا شيخ، أفي الله شكٌّ؟ قال: فيها قولان! لماذا؟ لأنَّه اعتاد على هذه المسألة دون علمٍ ودون رويَّةٍ.
ويذكرون أنَّ رجلًا كان يجلس للناس يُعلِّمهم اللغة العربية، وكلما سُئل عن كلمةٍ قال: نعم، والعرب يعرفون هذه الكلمة، ويبدأ يستدلُّ بأبياتٍ من الشعر.
فقال بعضُ الناس: نُريد أن نجمع كلمةً لا نعرفها نحن. وكانوا ستةً، فقال كلُّ واحدٍ منهم حرفًا واحدًا.
فقال الأول: خاء. وقال الثاني: نون. وقال الثالث: فاء. وقال الرابع: شين. وقال الخامس: ألف. وقال السادس: راء.
فأصبحت "خُنْفُشَار"، فذهبوا إلى هذا الرجل وقالوا له: ما معنى كلمة "خُنفشار"؟ فقال ولم يتروَّ: الخُنْفُشَار هو: نباتٌ طيبٌ بأرض اليمن، إذا وُضِعَ على الحليب راب، والعرب تعرف هذا. ثم قال:
لَقَدْ عَقَدَتْ مَحَبَّتُكُمْ فُؤَادِي *** كَمَا عَقَدَ الحَلِيبَ الخُنْفُشَارُ
فاكتشفوا أنَّه يكذب، وأنَّه يقول ما لا يعلم. ولهذا يقولون: لا تكن خُنْفُشَارِيًّا.
• من الآداب كذلك -وهو الأدب الأخير: التَّهيُّؤ للعلم بالعبادة
أن نتهيَّأ للعلم بالعبادة، فالعلم عبادةٌ تتقرب بها إلى الله، فإذا أردت ثمرةَ العلم، وإذا أردت أن تشعر بلذته؛ فتهيَّأ له بالعبادة، واجعل له قلبًا صافيًا، واجعل له لسانًا ذاكرًا، واجعل له سمعًا لا يسمع إلا إلى ما أباح الله، واجعل له نظرًا لا تستخدمه إلا في طاعة الله، وهيِّئ حياتك للعلم الشرعي بشكلٍ إيجابي.
ولهذا يقول العلماءُ: "كانوا يتهيَّؤون للعلم بالعبادة، وكان أحدُهم قبل أن يكتب الحديثَ يتعبَّد الله -عز وجل- عشرين سنةً".
للعبادة أثرٌ عظيمٌ في حياة طالب العلم. لماذا؟
لأنَّ الله -عز وجل- يقول: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]، فبقدر قُربك من الله بقدر ما يفتح الله -عز وجل- عليك من أنواع العلم، ومن أنواع المعارف.
هذه جملةٌ من الآداب التي يجب على طالب العلم أن يُراعيها، وكما ذكرتُ لكم سابقًا أنَّ طالب العلم بحاجةٍ إلى أن يقرأ كثيرًا، خاصَّةً في آداب الطلب؛ ليُقدِّم صورةً ونموذجًا حسنًا عن العلم وأهله، ويكون كما كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقد كان خلقُه القرآن، فطالب العلم أيضًا بحاجةٍ إلى أن يكون خلقُه القرآن.