هل المسيح هو رب السبت؟

[مصطفى طالب مصطفى]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

لقد جرت سُنَّة الله عز وجل ورحمته بخلقه أن يُرسل لهم رسول كلما غرَّهم إبليس باستجرائه فزاغوا عن الطريق المستقيم, ويُنزِل عليهم كتاب فيه هدايتهم فرَبُّ الناس أعلم بما يُصلِح أحوال الناس

وكانت هذه الكُتُب مُصَدِّقة لبعضها البعض في الإعتقاد بأن الله واحد لا شريك له وبوجوب عبادته وحده

كذا اتفقت تلك الكتب بالتشريعات الأساسية كتحريم الزنى وشرب الخمر وغيرها المعروفة بالوصايا العشر, قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [النساء:163]


وقال عزَّ وجل: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48]


فأخبر الله عزَّ وجلَّ أن القرآن الكريم مُصَدِّقاً لما صَحَّ من كُتُب اليهود والنصارى ومهيمنا عليها بمنهاجه الشامل الكامل الخاتَم

وأخبر أن الله جعل لكل أُمَّة شرعة ومنهاج تسير عليه يوافق طبيعتها وعلاقتها مع الله, فمن يشدد يشدد الله عليه

فمن ذلك أن الله أوجب على بني إسرائيل إتباع موسى عليه الصلاة والسلام لكنهم عاندوا وكابروا وردُّوا الأوامر وارتكبوا المناهي, فابتلاهم الله بتشريعات صعَّبت عليهم الحياة ومن تلك التشريعات تشريع السبت, قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13]

ولكن شاء الله عز وجل أَن يرفع عنهم بعض التشريعات ببعثة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام ومن ضمن تلك التشريعات التي رفعها وأبطلها: تشريع حرمة العمل يوم السبت

لندخل في تفصيل المسألة:

الجانب العقدي

دعوة المسيح خاصة ببني إسرائيل

قال تعالى: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49]

وجاء في التفسير الميسر لهذه الآية: ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل, ويقول لهم: إني قد جئتكم بعلامة من ربكم تدلُّ على أني مرسل من الله, وهي أني أصنع لكم من الطين مثل شكل الطير, فأنفخ فيه فيكون طيراً حقيقياً بإذن الله, وأَشفي مَن وُلِد أعمى, ومَن به برص, وأُحيي من كان ميتًا بإذن الله, وأخبركم بما تأكلون وتدَّخرون في بيوتكم من طعامكم. إن في هذه الأمور العظيمة التي ليست في قدرة البشر لدليلا على أني نبي الله ورسوله, إن كنتم مصدِّقين حجج الله وآياته, مقرِّين بتوحيده.

‏ ومُصَدِّقاً

نجد مصداق ذلك في الكتاب المقدس عند النصارى

ورد في إنجيل المنسوب إلى متى: فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»[Mt-15-24]

إِرسَال المسيح رُسله

ففي إنجيل متى أيضا: بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ [Mt-10-6]

الجانب التشريعي

أخبر الله في القرآن الكريم أنَّه ابتلى بني إسرائيل بالسبت أي بحرمة العمل يوم السبت إختباراً لهم وامتِحاناً وتهذيباً لنفوسهم الغليظة

قال تعالى: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران: 50]

وجاء في التفسير الميسر لهذه الآية: وجئتكم مصدقًا بما في التوراة, ولأحلَّ لكم بوحي من الله بعض ما حرَّمه الله عليكم تخفيفًا من الله ورحمة, وجئتكم بحجة من ربكم على صدق ما أقول لكم, فاتقوا الله ولا تخالفوا أمره, وأطيعوني فيما أبلغكم به عن الله.

ومصدقاً

نحن نعلم أنَّه في شريعة الإسلام ليس هناك حُرمَة للسبت تلك التي كانت لبني إسرائيل, ونعلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم عن تحليل السبت, فمن الذي أبطل شريعة السبت؟

إنَّه المسيح عليه الصلاة والسلام ألذي أرسله الله لبني إسرائيل ليخفف عنهم

ورد في الإنجيل المنسوب إلى متى ترجمة الفانديك: لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس او الانبياء.ما جئت لانقض بل لاكمّل [Mt-5-17]

وجاء في ترجمة الحياة: لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ [Mt-5-17]

تحليل موضوعي

قال تعالى في القرآن الكريم على لسان المسيح قوله "وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ" وورد في كتاب النصارى "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ" وفي ترجمة الحياة ما يوضِّح أن المسيح عليه الصلاة والسلام لم يأت ليلغي الشريعة فما بالهم يلغون شريعة التوراة ولا يعملون بها, وعندما ننكر عليهم نصوص القتل في العهد القديم يقولون تلك ليست لنا والمسيح يقول"لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلغِي الشَّرِيعَة"

وأما قوله تعالى عن المسيح "وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ" نجدها في الكتاب المقدس عند النصارى عند قوله "مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"

على أرض الواقع

أمر الله عز وجل بني إسرائيل بحفظ السبت

فمما جاء في سفر التثنية:اِحْفَظْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ كَمَا أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ [Dt-5-12]

وأيضا في سفر الخروج: فَيَحْفَظُ بَنُو إِسْرَائِيلَ السَّبْتَ لِيَصْنَعُوا السَّبْتَ فِي أَجْيَالِهِمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا [Ex-31-16]

وقد جاء بيان كيفية حفظ اليهود للسبت

جاء في سفر إرميا: وَلاَ تُخْرِجُوا حِمْلاً مِنْ بُيُوتِكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ، وَلاَ تَعْمَلُوا شُغْلاً مَّا، بَلْ قَدِّسُوا يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا أَمَرْتُ آبَاءَكُمْ [Jer-17-22]

وجاء المسيح بعد ذلك ليخفف عن بني إسرائيل

جاء في إنجيل مرقص: ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ، لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ [Mk-2-27]

وجاء أيضا بعد أن عرض لهم ما قيل عن داود عليه الصلاة والسلام: وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً [Lk-6-5]

نحن نعلم أن النصارى يتمسكون بكلام المسيح هنا أي قوله "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ" فيقولون هذا نص يثبت ألوهية المسيح أنه رب السبت وصاحب الشريعة, ولكن المسيح يثبت أن السبت ما هو إلا تشريع وأن الإنسان ومصلحته هي الأهم, ويستدل بذلك على فعل داود عليه الصلاة والسلام من أكله هو والذين معه يوم السبت, فيثبت أن المسيح مثله مثل داود عليه الصلاة والسلام

الحكمة من ابطال السبت

فحدث أن كان المسيح يعمل في السبت على خلاق عادة اليهود

جاء في إنجيل مرقص: كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ:«مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ [Mk-6-2]

وعندما اعترض عليه اليهود بيَّن ووضَّح لهم أنَّ ابن الإنسان هو المقدم على السبت وفق حكمة الله وإرادته

فقال كما في إنجيل يوحنا: فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئَلاَّ يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي شَفَيْتُ إِنْسَانًا كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟ [Jn-7-23]

فإن كان الختام احيانا يتم يوم السبت لأنه يوافق موعد الختان الذي شرعه موسى فلا تُنكرون ذلك, وتنكرون علي مساعدتي للناس يوم السبت؟

إذا فما كان ابطال المسيح للسبت إلا لأنه رسول الله إلى بني إسرائيل خاصة, أرسله مصدقاً للتوراة ومخففاً عنهم بعض الأحكام

ومُهَيمِناً عَلَيه

وأما لماذا جعل الله السبت على بني إسرائيل, فالنصارى يقولون أَنَّ الله عاقبهم بالسبت ونحن نقول أنَّه تشريع خاص فيهم لعنادهم وكبرهم فابتلاهم الله به لكن الكتاب المقدس يقول غير ذلك, ففي ست او سبع مواضع يوضع الكتاب المقدس أنَّ الله والعياذ بالله بعدما خلق السماوات والأرض استراح من عمله في اليوم السابع فقدس ذلك اليوم وجعله مقدساً بين بني إسرائيل

فجاء في سفر الخروج: لأَنَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، وَفِي الْيَوْمِ السَّابعِ اسْتَرَاحَ وَتَنَفَّسَ [Ex-31-18]


فأتى القرآن الكريم ليوضح أن ذلك لا يجوز في مقام الألوهية, فالله عز وجل كامل في كل شيئ ولا يثقله شيء أبداً

قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38]

أي ما مسنا من تعب أبداً

فالحمد لله الذي أنزل إلينا القرآن الكريم المُهَيمِن على الكتب السابقة والمبين لما خَفِيَ فيها من الحق ومصححاً ما فيها مِن بَاطِل

والحمد لله الذي بعث لنا خَاتَم أنبياءه فأكمل لنا به الدين وأتَمَّ علينا النِعمة, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء:47]

وكونوا مِن أتباع النبي الكريم الذين أثنى الله عليهم في كتابه الكريم فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]